لحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على خاتم أنبيائه والمرسلين. أما بعد، فقد قرأت و بحثت في آراء جمهور المسلمين في ما يخص مفهوم التدين في الإسلام و غير ووجدت تنوعاً و تضارباً صارخاً و لبساً كان لابد من حله، و لما كنت ممن طلب العلم في هذا الجانب من الفكر الإسلامي فقد ارتأيت أن أعرض عليكم ما وجدت من حقائق و دلائل مدعمة بالأدلة الفكرية و النصية، و سأقوم بتقسيم الموضوع إلى عدة أجزاء أخصص كلاً منها في توضيح جانب و الرد على ما اشتبه فيه، سأخصص الموضوع الأول في تبيين الفرق ما بين كل من التدين و ممارسة العبادات و الالتزام و الاستقامة.
مفهوم التدين:
أنقل عن الأستاذ أحمد قطب في مقالته "التدين.. رحلة في الدلالات اللغوية والثقافية" قوله: (ويبدو مما أوردته المراجع الأصيلة للسان العربي أن التديّن بمعناه المألوف اليوم لم يكن لفظاً مطروقاً وقت إنشاء تلك المراجع، إلا إذا استخدم على الوجه اللغوي المحض لوزن تلك الكلمة: "متفعِّل"، والمرء حين يتفعل الشيء إنما يتخذه أو يتحلى به أو يتكلفه.. وهو ما أورده لسان العرب في "دان بكذا ديانةً وتديّن به فهو ديّن ومتديّن"؛ فالمرء -إذا فُهمت الكلمة على هذا الوجه- حين يتدين، إنما يتخذ لنفسه ديناً وكفى.) – انتهى كلامه.
و من هنا فإن اتخاذ أي دون واعتناقه يكسب المعتنق صفة التدين بغض النظر عن مدى تعمقه في هذا الدين ومدى محافظته على فرائضه، و هذا يعني أيضاً أن التدين إما أن يكون أو لا يكون، فإما أن تكون متديناً أو لا متديناً، ولا يوجد تمايز في مفهوم التدين فلا يوجد شخص متدين جداً و آخر متدين بشكل بسيط.
ظهور مفهوم التدين:
لكي نفهم سبب ظهور مفهوم التدين علينا في البداية أن نفهم المبدأ الذي ساهم في ظهوره و هو ما يعرف بالعلمانية. لم يظهر هذا المصطلح باستخدامه الحديث حتى بداية عصور التنوير في أوروبا و انهيار سلطة الكنيسة الكاثوليكية و ظهور مبدأ العلمانية بمعنى (المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة) و القائم على فصل الدين عن الدنيا و الدولة، و تبلور مفهوم العلمانية في فرنسا إبان الثورة الفرنسية سنة 1789م و الإطاحة بالنظام الملكي و سيطرة الكنيسة هنالك.
و جاء تكون مفهوم التدين في الغرب كرد فعل على قيام مبدأ العلمانية و محاولة لإعادة توجيه الدين المسيحي إلى نواحٍ أخرى بعيدة عن الدولة و الحكم، و شكل هذا الإجراء شرخاً نوعياً بين دين كان هو دفة القيادة و بين مفهوم قائم على ما يُنسب إلى السيد المسيح عليه السلام من قوله: "إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
و كان أول ما دخل مفهوم العلمانية و التدين إلى العالم الإسلامي مع حملة نابليون بونابرت على مصر سنة 1798. وقد أشار إليها الجبرتي في تاريخه – الجزء المخصص للحملة الفرنسية على مصر وأحداثها – بعبارات تدور حول معنى العلمانيةوإن لم تذكر اللفظة صراحة، أما أول من استخدم هذا المصطلح العلمانية فهو مسيحييُدعى إلياس بقطر في معجم عربي فرنسي من تأليفه سنة 1827م.
و ثارت ثائرة العلمانية في العالم العربي و الإسلامي إبان الحرب العالمية الأولى و كردة فعل على سياسات القمع و الاستغلال التي انتهجتها السلطنة العثمانية و نتيجة لاستخدامهم سياسية الترهيب باسم الدين و استغلال الدين كسلاح ضد أتباعه، و أدى هذا النهج - بالإضافة إلى تغلغل الفكر الغربي إلى العالم العربي – أدى إلى قيام تحرك شعبي واسع يهدف إلى انهاء الاستبداد الديني و إقامة الدولة العلمانية كونها تمثل -كما كانوا يعتقدون- مبادئ الحرية و الديموقراطية، و كما حدث في الغرب فقد تم ادخال مفهوم التدين إلى العالم الإسلامي في محاولة إلى فصل الإسلام عن السلطة و الدولة و أمور الحياة و توجيهه للاختصاص بالأمور الفقهية، فصل يتعارض بشكل صارخ مع الإسلام و عقيدته المتمثلة في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّالْعَالَمِينَ} [سورة الأنعام : آية: 162]، و بالتالي فإن التدين بمعناه الحديث هو تصديق لمبدأ العلمانية و مخالفة لما جاء في القرآن و السنة.
التدين، ممارسة العبادات، الالتزام:
غالبا ما يتم الخلط بين هذه المفاهيم الثلاثة عند الحديث عن التدين في العالم الإسلامي، و لكن لكل مفهوم دلالاته و معانيه، فالتدين كما أوضحنا سابقاً يعني اعتناق الدين و يكون ذلك بشكل مجرد عن مدى تعلقه فيه أو تطبيق شرائعه، و غالبا ما يتحدث العامة عن الالتزام و الاستقامة على أنه هو التدين و هذا خطأ، فالالتزام هو مدى التمسك بالفرائض و التشريعات السماوية في كافة أمور الدين و الدنيا و يكون متفاوتاً بين شخص و آخر و هو ما يسمى الإحسان و هو أعلى مراتب الاعتقاد بعد الإسلام و الإيمان، يكتمل الإحسان بأخذ العلم الشرعي رغم أنه ليس شرطاً من شروطه، كما يكتمل باجتناب الشبهات و الحرص على ترك مواضع الفتن و الإكثار من النوافل و المستحبات.
أما مفهوم ممارسة العبادات فهي من الأمور المسلم بها والمفروضة على كل مسلم ولا يكون في إتيان الفروض والواجبات أي فضل بل يكون في تركها عقاب و إثم، فدخول الإسلام يكون بالنطق بالشهادتين قولاً و تصديقاً أما تحقيق الإسلام فلا يكون إلا بإكمال أركانه الخمسة و يستثنى من ذلك ما يعذر به البعض (كالصيام بالنسبة للمرضى و الزكاة بالنسبة للفقراء و الحج بالنسبة للقاعدين و أصحاب الأعذار)، و يمكن توضيح الصورة بأن نشبهها بالشهادة الابتدائية، فطالب الصف الأول هو في المرحلة الابتدائية ولكنه لا ينال الشهادة الابتدائية حتى يتم الصفوف الخمسة أو الستة الأولى، و من هنا فإن ممارسة العبادات المفروضة هو شرط لاستيفاء الإسلام الذي هو أول مراتب الاعتقاد في الإسلام.
تم الجزء الأول بحمد الله.
عبدالله شاهين
نقاط تلخيص:
- مصطلح التدين مصطلح حديث مصدر من الغرب.
- الانسان متدين بالفطرة بغض النظر عن نوع أو توجه هذا الدين.
- التدين يعني اعتناق دين معين بغض النظر عن مدى التعمق في مفاهيمه و شرائعه.
- التدين بمعناه الحديث هو تصديق لمبدأ العلمانية و مخالفة لما جاء في القرآن و السنة.
- ممارسة العبادات هي من الأمور المسلم بها والمفروضة على كل مسلم ولا يكتمل الإسلام إلا بها.
- الالتزام هو مدى التمسك بالفرائض و التشريعات السماوية في كافة أمور الدين و الدنيا و البعد عن الشبهات و الفتن و يكون متفاوتاً بين شخص و آخر، و يأتي في مرتبة أعلى من الإسلام و الإيمان.